كيف تساهم اللغة في بناء الأمل والهدف في حياتي (مدونات شخصية) – الجزء 2
ذكرت في مقالة سابقة أنني ادرس كلمات إنجليزية جديدة بشكل منتظم كحيلةً مني لدفع الملل ، واستجلاباً للإحساس بأني في موقع السيطرة على حياتي بفعل شيء ذي قيمة. والحقيقة أني تذكرت أنني كنت أفعل هذا من أيام الدراسة الثانوية، وربما منذ أواخر أيام الدراسة الابتدائية. ولستُ أدري أكان ذلك مني نتيجةَ نصيحة سمعتها من أحد المعلمين بتعلم كل يوم بضع كلمات جديدة، أم لعله مسلك اهتديت إليه بنفسي بالتجربة وواظبت عليه بعد أن وجدته مؤدياً لهذا التأثير النفسي الجميل.
لم تكن هناك جوالات ذكية تلك الأيام نحمل عليها برامج تعلم اللغات أو قواميس إلكترونية، فكان السبيل هو الطريقة التقليدية بأن افهم المرادف العربي للكلمة من القاموس الورقي ثم أكتبه على احد جانبي الصفحة بعد أن أضع تحتها خطاً بقلم الرصاص.
كانت الكتب التي أستخدمها هي الكتب القديمة التي أهملتها الوزارة في مخازن المدرسة بعد أن غيروا المناهج ربما عمداً لإخراج أجيال ضعيفة أكاديمياً تسهل قيادتها، فكانت تُلقى أحياناً في مقلب القمامة، أو يسمح لنا بأخذها، للإفساح لكتب المناهج الجديدة، فيأخذها فريق منا لمطالعة الصور التي فيها ثم يلقي بها، وفريق منا آخر يأخذها حباً في اقتناء الكتب، ولقد كنت من الفريق الأخير
وكان يرافقني أحياناً قاموس مختصر للجيب لمنير البعلبكي،كان والدي قد اشتراه لي. فكنت أدرس منه بعض الكلمات على نحو عشوائي لا ينتظم. وبعد أن التحقت بالجامعة اشتريت قاموس أكسفورد الحديث (مع بعض كتب التنمية الذاتية التي كانت قد بدأت تغزو المكتبات) في إحدي زياراتي للعاصمة أثناء الأجازة، بمبلغ لم يكن بالزهيد لطالب مثلي، والتي كلفتني ثروة صغيرة من المال كانت أجرة أسبوع من الكد كعامل بأحد المطاعم الشعبية بالقرب من إستاد الخرطوم، والتي حصلت عليها بعد أن بخسني صاحب المطعم -لا سامحه الله – ثلاثة جنيهات كاملة من الأجرة اليومية المتفق عليها، أي ما مجموعه واحدا وعشرون من الجنيهات لعدد الأيام السبعة التي اشتغلتها معه أنظف بقايا الأكل من الطاولات وأسقي الزبائن. لكن ذلك المبلغ كان ذا قيمة كبيرة تلك الأيام، خصوصا وأن صاحب المطعم كان يجعلنا نكدح اليوم بطوله وننام لمدة خمس ساعات فقط. لكن يبدو أن هذا المبلغ كان قد طرحت فيه البركة وأنفق في مكانه الصحيح، لأن القاموس الذي اشتريته به قد أفدت منه فوائد عظيمة، فكان مميزا بأنه كان نسخة إنجليزي – إنجليزي – عربي مع احتوائه على أمثلة للمفردة داخل جمل وعبارات إنجليزية تجعل التعلم أكثر إمتاعاً من دراسة الكلمات منفردة ومجتزئة من السياق، مما يساعد في الاحتفاظ بالكلمات في الذاكرة لوقت أطول، وغيرها من فوائد. فكنت أواظب على أن أدرس منه ما لا يقل عن عشر كلمات على نحو يومي (كان ذلك يقع مني أحياناً أثنا محاضرات الرياضيات التي كنت أملها ولم أكن أفهم من أستاذها على أية حال).
في كتابه The four hours work week يقول تيم فيرس : (تذكر ان عدوك هو الملل وليس الفشل)، ولهذا فأنا دائم العمل على دفع هذا الشعور عني ما أستطعت لذلك سبيلا ، ولعلي أكون حينها اكثر رضاً إن كانت الوسيلة لذلك بها شيئاً ولو يسيراً من الفائدة العملية، وبهذا نكون قد اصطدنا سمكتين بطعم واحد، او كما يقولون ضربنا عصفورين بحجر واحد.
بجانب انني اقوم بذلك كحيلة لدرء الملل ، ذكرت أنني افعل ذلك للإحساس بالسيطرة على حياتي ولكن ربما تساءلت عزيزي القاريء كيف يجعلني هذا أسيطر (أو اشعر على الأقل ) بالسيطرة على حياتي، وما اهمية ذلك في المقام في الأول؟
مارك مانسون، الذي يصف نفسه مازحا بأنه “كاتب تنمية ذاتيه يكره ذاته”، يقول في كتابه (خراب .. كتاب عن الأمل)، والذي نقده البعض بأنه كتاب فلسفي أكثر من أنه كتاب مساعدة ذاتية : “لا بد لنا من ثلاثة أشياء حتي نبنبي اﻷمل ونديمه، إحساس أننا في موقع السيطرة، واقتناع بقيمة شيء ما، و جماعة من البشر ننتمي اليها …….. تحقيق تلك اﻷشياء )
و أنا هنا إذ أحاول فهم ذاتي عن طريق هذا النموذج الذي ذكره مانسون، أرجو أن لا أكون قاريء تنمية ذاتيه يكره ذاته، و رغم أنني أقللت كثيراً من إدماني على منتجات هذه الصناعة من كتب ودورات، إلا أنني ما زلت أجد نفسي بين الفينة والأخرى واقعاً ضحية لحيلهم التسويقيه ومبتاعاً أحد كتبهم في محاولات متفائله لحل بعض أزمات الحياة المختلفة، والتي تنتهي في بعض الأحيان بنهاياتها بائسة أو تصيب هدفها في أحيان أخرى، وإن صابت فلا أدري هل كان ذلك نتيجة قراءتي لهذه الكتب أم بسبب أن الإنسان ينضج رغماً عنه بفعل عامل السن وخوضه تجارب الحياة ، أم أن الأمور كانت ستحل بكل الأحوال دون فعل أي شيء وكان على الإنسان أن يصبر فقط.
لكن على اية حال دعوني ارجع لنموذج مارك مانسون سالف الذكر، فقد يكون مختلفاً عن كثير من مفاهيم التنمية البشرية من ناحية أنه إستند في استنباط هذا النموذج من دمج عدد النظريات العلمية في مجال علم النفس، في محاولة لأن أصل لفهم أعمق لشخصيتي فيما يتعلق بمتعتي وشغفي بتعلم اللغات أو لما افعله بشكل عام مع اخذ اللغة الإنجليزية كمحور مهم للتفكر في هذه الأمور.
يقول مارك مانسون: (ليس الغضب أو الحزن نقيضاً للسعادة، إذا كنت غاضباً أو حزينا، فهذا يعني أنك لا تزال مبالياً بشيء من الأشياء. يعني هذا أنه لا يزال هناك شيء له أهميته عندك. ويعني أنك لا تزال تملك أملاً. لا … بل إن نقيض السعادة هو انعدام الأمل، وهو الأفق اللانهائي من الاستسلام واللامبالاة. إنه الإيمان بأن كل شيء خربان وبأن كل شيء خراب … فلماذا يفعل المرء أي شيء على الإطلاق)
يستخدم مارك مانسون كلمة “أمل” بطريقة مختلفة عن الأكاديميين، حيث يستخدم الجزء الأكبر منهم كلمة “أمل” للتعبير عن مشاعر التفاؤل : توقع احتمال نتائج إيجابية أو الإيمان بهذا الإحتمال، وحسب رأيه فقد يغذي التفاؤل الأمل ولكنه ليس الأمل، وهو يشير الى الأمل في كتابه بما يوصف أحياناً بأنه “الغاية” أو “المعني” ضمن الأدبيات الأكاديمية، أي الدافع في إتجاه شيء ما نعتبره ذا قيمة
ويواصل شارحاً خطورة الأمر بشكل مبالغ فيه ربما كوسيلة لحثك على الإنتباه أكثر فيكتب : “إنعدام الأمل حالة من العدمية الكالحة ، وهو إحساس بأن ما من معني لأي شيء”
ويصف القلق والإكتئاب بأنها أزمات أمل، والإدمان والأوهام والهواجس كلها محاولات اضطرارية يائسة يقوم بها العقل لخلق أمل ما.. إنها خدع عصبية أو توقٌ مرضي واحدة تلو الأخرى”
ومن هنا يصير تجنب حالة انعدام الأمل (أي السعي لبناء الأمل) هي المشروع الأول لدى عقلنا، ومن هنا فإن الأمل هو الشيء الوحيد الذي يكون أي واحد منا مستعداً للموت من اجله، الأمل هو ما نؤمن بأنه أكبر من أنفسنا ومن غير الأمل نصير مقتنعين بأننا لا شيء. ( ايرنست بيكر انكار الموت) (مارك مانسون ، خراب .. كتاب عن الأمل، ص 23 – 24 )
فهل كانت ولا تزال تعلم اللغة الإنجليزية /تعلم اللغات هي الوسيلة التي يستخدمها عقلي لإجتراح هذا الأمل؟ هل هي “الجزرة” نفسها المعلقة من طرف العصا التي اتحصل عليها عند تعلم مفردة جديدة أو عبارة ما.
فهل شكل تعلم اللغة في حد ذاته نشاط ذا معنى له غايات عدة ، هل شكل وسيلة للامل واعطائي دافع اتجاه اشياء اعتبرها ذا قيمة، فاللغة مفتاح للثقافة والعلوم والسفر والعمل وغيرها؟
هل شكل تعلم اللغة محفز او محافظ على حالة الأمل لدي؟ هل كنت أرى أن كل كلمة جديدة هي مفتاح لحكمة اعمق، أو معرفة أوسع؟
هل جعلني اشعر انني في موقع السيطرة على حياتي وجعلني أكثر حيلاً في مواجهة تقلبات الحياة و تحدياتها المختلفة؟
ربما فعلت ذلك بطريقة عملية أكثر في السنوات السابقة حينما اتيح لي استخدام الإنترنت بعد أن كان حلما يراودني منذ الصغر، بعد دخولي الجامعة كان أول ما أفعله عندما تواجهني مشكلة ما، أو ارغب في معرفة معلومة أو تعلم شيء جديد، هو أن اهرع للمكتبة الإلكترونية وانتظر دوري في استخدام الإنترنت، حيث تعرفنا على منتديات مكتوب بأقسامها العديدة، وغيرها من المنتديات التي كانت تنشر فيها الكتب و المعلومات والحلول لمختلف المشاكل وغيرها من النقاشات، ولكن بعد فترة تكتشف ان المحتوى العربي لم يعد يجيب على اسئلتك وهنا تجد نفسك مضطرا للبحث باللغة الإنجليزية، فتتكشف متعة أكبر في البحث وأن فضولك الصغير يكبر مع كل صفحة إنترنت تطلع عليها، وتندهش أكثر حينما تجد مجتمعات كاملة تعاني من نفس مشكلتك أو لها نفس إهتماماتك، فيتوسع العالم أمامك بمقدار موقع ويب أو منتدي جديد تتعرف عليه، وإن كنت من هواة الدردشة فتجد غرف الدردشة مليئة بآلاف الأشخاص من دول مختلفة و قارات بعيدة يجلسون مثلك أمام الحواسيب مأسورين بهذه الإمكانيات التقنية العجيبة.
شكلت الإنجليزية مدخل لكثير من المهارات التي ساعدتني بشكل كبير في التقدم المهني، وخصوصا في مجالات التقنية و التسويق وريادة الأعمال.
في بداية الأمر كان تعلم اللغة الإنجليزية كواحدة من المواد التي أدرسها ولا بد من حفظ الكلمات الجديدة عن ظهر قلب مع طريقة تهجئتها و نطقها، عندما كنت في الصف الرابع الإبتدائي منتقلاً للصف الخامس الذي نبدأ فيه بتعلم الإنجليزية كان الطلاب الذين يكبرونا سنا يرعبونا من صعوبة اللغة الجديةدة، وكنت رغم تفوقي الدراسي لدي رهبة من الإنجليزية نتيجة لهذا التخويف، وكانت الدروس يسيرة بعض الحروف والأرقام و قليل من الكلمات، فلم تسمح لي هذه المقدمة البسيطة بمعرفة اللغة بشكل جيد، فكانت علاقتي عادية مع الإنجليزية ، وفي الصف السادس تحسنت العلاقة بشكل جيد،، و في الصف السابع فقد حظينا بأستاذ متمكن ومتخصص في تدريس الإنجليزية، نُقل من مدرسة أخرى الى مدرستنا لحسن حظي، فتوطدت علاقتي اكثر بها و بهذا الإستاذ الذي لا يزال صديقا لي، ومن هنا اكتشفت شغفي بهذه اللغة واعطيتها اهتماما أكبر مقارنة ببقية المواد الدراسية، فكنت أستمر في تعلم الكلمات الجديدة حتى في ايام الإجازة من الكتب الدراسية للمراحل القادمة أو أحيانا اجد قصة صغيرة تناسب المستوى الذي أنا فيه، وأحيانا بشكل عشوائي من القاموس.
لا أدري لماذا اغرمت باللغة الجديدة بهذا الشكل منذ سن صغيرة، لكني اتذكر اني كنت قد قرأت رواية الطيب صالح موسم الهجرة الى الشمال في الصف السادس ، فلا أدرى هل أعجبت بشخصية مصطفي سعيد و أخذتها كمثالاً يحتذي به في أن أتمكن من الإنجليزية مثله،أو ربما كان للسياح الزين يمرون ببلدتنا الصغيرة دور في الأمر، والزين كانوا يأتون اسرابا في سيارات الدفع الرباعي فكنا نجري خلف هذه السيارات ونحن اطفالاً ونهتف سعداء (الخواجات – الخواجات) و احيانا كنا نصادفهم وهم يجلسون على الكافتريات التي في طرف البحر (ضفة النيل) وهم يشربون المشروبات الغازيه، وكانوا يرفضون شرب العصائر الطبيعية محلية الصنع، فنجلس بقربهم وننظر اليهم بفضول الأطفال، وبعد أن عرفت بعض الكلمات الإنجليزية وعبارات المحادثة كنت اذهب بشيء من الشجاعة محاولاً التحدث معهم فكانوا سعيدين بالتعرف علي بلكنتي الإنجليزية السودانية، وبعد أن دخلت المدرسة الثانوية كنت استضيف بعضهم في بيتنا حيث استضفت في مرة رجل وإمرأة من سويسرا لليلة واحدة، وفي مرة أخرى استضفت سائح بريطاني لأسبوع كامل، لا أدرى إن كان لهذه الأمور تأثير أو لعله الإنبهار الذي يعطيه المجتمع لمن يستطيع التحدث بالإنجليزية كان هو الدافع؟
لست متأكدا من أين بدأ الشغف بهذه اللغة، لكني مع مرور الأيام كنت أتأكد أكثر وأكثر من أنني على طريق صحيح فكلما ازدادات معرفتي باللغة كان يزداد شغفي اكثر بها، ولا يبدو أن لهذا الشغف نهاية، والأكثر جمالاً هو أنها كانت تنقذني في كثير من مطبات الحياة، فساعدتني في الحصول على وظائف محترمة رغم أنني لم أكن أملك سوى شهادة الثانوية، كمثال حينما هاجرت ﻷول مرة للعمل بالمملكة العربية السعودية كانت معرفتي الجيدة باللغة الإنجليزية وقدراتي في الكمبيوتر هما اكثر ما سهل حصولي على الوظائف، وكانت نصيحة احد اﻷصدقاء بأنه اذا تم سؤالي في مقابلة العمل عن مدى قدراتي في اﻹنجليزية ان ارد عليهم باللغة اﻹنجليزية واثبت على ذلك حتي نهاية المقابلة، وفعلا فقد حصلت على عدة وظائف برواتب محترمة لشخص لا يملك سوى الثانوية العامة ،مما جعلني اتاكد بشكل عملي من فرضيتي بأنها من اهم المهارات إن لم يكن أهمها على الإطلاق في هذا العصر يمكن ﻷي إنسان ان يتطور بها في مهنة من المهن.
و للحديث بقية..